غلب الظنّ أنّ أيّ شخصٍ ينتقد أو يشكّك في مشروعٍ يظهر أنّه حسن النيّة كـ 'الأمميّة التقدميّة'" سيصنّف على أنّه '"متمرّدٌ فتنويّ'"، مذنب بتوهين وحدةٍ مطلوبةٍ جدًّا لدى اليسار. لكنّه من الواضح أنّ الوحدة التي تنادي '"الأمميّة التقدميّة'" لأجلها شاملةٌ للغاية، لدرجة أنّها تضمّ مناصرين لما يجب أن يكون لعنةً بغيضةً لدى أيّ '"تقدميّ'" – الإمبرياليّة."
'الأمميّة التقدميّة'"، صفقة خضراء جديدة عالميّة وحدود '"وحدة اليسار'""
(ترجمة: علي الهادي شقير)
حان الوقت لتقدميّي العالم أن يتّحدوا.
"الأمميّة التقدميّة"، أيّار ٢٠٢٠
لا يجب على المرء أن يسمح لنفسه بأن يُضلَّل من خلال صرخة "الوحدة". أولئك الّذين تتردّد هذه الكلمة على شفاههم هم الّذين يزرعون أكبر قدرٍ من الفُرقة... هؤلاء المتطرّفون للوحدة إمّا أشخاصٌ محدودو الذّكاء، يريدون مزج كلّ شيءٍ معًا إلى خليطٍ واحد يصعب تصنيفه، والذي، لحظة تركه ليستقرّ، يطلق كلّ الاختلافات مجدّدًا في شكل تعارضٍ أكثر حدّة بكثير، لأنّها جميعًا الآن في وعاءٍ واحد... وإمّا أنّهم أشخاص، عن وعيٍ أو بدونه... يريدون جعل الحركة أقلّ نقاءً.
فريدريك إنجلز، حزيران ١٨٧٣
في 11 أيّار 2020، أعلن بيرني ساندرز ويانيس فاروفاكيس عن إنشاء مشروعٍ سياسيٍّ جديد: "الأمميّة التقدميّة" (PI). فاروفاكيس، الرجل الذي يعتقد أنّ الثورة ستحدث بمعجزةٍ نتيجة تقنيّاتٍ كالطباعة ثلاثيّة الأبعاد، التي "ستجعل الشركات العالمية عاجزة"، عوضًا عن التظاهر الذي يصفه بتكبّرٍ على أنّه "أناسٌ يخرجون ويلوّحون بالأعلام"، لا يلهم بالضبط الثقة بأنّه قائدٌ مهتمٌّ بالتغيير الحقيقي. بالفعل، إنّ أحد أبرز أسباب وصوله للشهرة هو إدارته الكارثية لمفاوضات الإنقاذ بين الاتّحاد الأوروبي واليونان، التي أدّت إلى إنهاك البلد إقتصاديًّا. ساندرز، في المقابل، هو رجلٌ أظهر مرارًا وتكرارًا من خلال الأقوال والأفعال معارضته للشيوعية وولاءه للإمبرياليّة الأمريكيّة – بما في ذلك موقفٌ مؤيّدٌ بشدّةٍ لإسرائيل. على ضوء ذلك، كان لديّ مباشرةً تحفّظاتٌ جادّةٌ حول الطموحات العالميّة لحركةٍ يقودها أفرادٌ كهؤلاء.
ردّ فعليَ الغريزيّ كان أنّ "الأمميّة التقدميّة" بدت كمحاولةٍ للتّرويج لورقة توتٍ "يساريّة" تغطّي صفقةً خضراء جديدة عالميّة – أيْ شيئًا شبيهًا بالاشتراكيّين الديمقراطيّين في أميركا (DSA) على صعيدٍ عالميّ، تستقطبُ راديكاليّين ذوي نوايا حسنة إلى دعم استمرار نظامٍ غير قابلٍ للإصلاح بطبيعته، من خلال وعودٍ غامضةٍ عن التغيير "التقدّمي". كلّ ذلك دون معارضةٍ فعليّةٍ أو حتّى تشكيل أيّ تهديدٍ للرأسماليّة والإمبرياليّة بأيّ شكلٍ من الأشكال. هذه المخاوف لم تسكن عندما رأيت أنّ الحركة تحظى بتغطية إيجابيّة في "ذي نيو ستايتسمان"، المجلّة البريطانيّة اليساريّة ظاهريًّا، والتي اعتبرت أنّ مجرّد احتمال وجود حكومةٍ لحزب العمّال بقيادة جيريمي كوربن كان أكثر راديكاليّةً من أن تتجرّأ على دعمه. ومع ذلك، لعدم رغبتي في الحكم على المجموعة فقط على أساس أعضائها الأكثر شهرة، ولأنّ عددًا من الأشخاص والمنظّمات الذين أحترمهم مدرجون على أنّهم على علاقةٍ بـ "الأمميّة التقدميّة"، قرّرت التحرّي عنها عن كثب قبل إصدار أيّ حكم. بعيدًا عن تبديد مخاوفي، ما وجدته خدم في زيادتها.
صفقة خضراء جديدة عالميّة: إمبريالية "تقدّمية"
واصفةً نفسها على أنّها "مبادرة عالميّة تهدف إلى توحيد، تنظيم وتعبئة القوى التقدّمية حول العالم"، "الأمميّة التقدميّة" هي نتاج نداءٍ مشتركٍ في كانون الأوّل 2018 من قبل معهد ساندرز وحركة الديمقراطيّة في أوروبا (DiEM25) التابعة لفاروفاكيس، لتشكيل "جبهةٍ مشتركةٍ في الحرب ضدّ القوّتين التوأمين، الفاشيّة وأصوليّة السوق الحر". المنسّق العام للمجموعة وعضو مجلس إدارتها دايفد أدلر، يشغل أيضًا منصب مدير السياسات في DiEM25، وقد كان سابقًا باحثًا زميلًا في معهد توني بلير للتغيير العالمي. وضّح فاروفاكيس وأدلر أهداف "الأمميّة التقدميّة" في مقال رأي نشر في الغارديان في كانون الأوّل 2018. من خلال محاجّةٍ هزليّةٍ بلا-تاريخيّتها ومراوغتها، يشيد الاثنان بمؤتمر بريتون وودز "الباهر" باعتباره "ذروة الأمميّة الغربيّة"، ويرسمان صورةً عن بنكٍ دوليٍّ وصندوق نقدٍ دوليٍّ كانا فاضلين يومًا ما، وانحرفا في السبعينات. رميُ هكذا نوعٍ من الثناء على المؤتمر الذي أنشأ الآليّات والمؤسّسات التي قامت من خلالها الولايات المتّحدة بصوغ دولرة الاقتصاد العالمي ما بعد الحرب، ودمّر الأحزاب الشيوعيّة في أوروبا الغربيّة، واستنهض عصر النيوكولونياليّة عبر أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيّة، لهو أمرٌ مقلق، إذا أردنا أن نكون لطفاء في التوصيف.
ثمّ يقوم أدلر وفاروفاكيس بتقديم طرحهما عن "الأمميّة التقدميّة": حركةٌ "لتعبئة الناس حول العالم من أجل تحويل النظام العالمي والمؤسّسات التي تكوّنه". على وجه التحديد، يدعوان صندوق النقد الدولي "للإشراف على اتّحادٍ ماليٍّ عالميٍّ يعيد التوازن إلى إجمالي رأس المال الحالي وإلى الاختلالات التجارية"؛ يدعوان البنك الدولي للإشراف على صفقة خضراء جديدة؛ ويدعوان منظّمة أممٍ متّحدةٍ "منشّطة من جديد" إلى "صياغة تعهّداتٍ ملزمةٍ لانتقالٍ إيكولوجيٍّ سريع". على حدّ تعبير أدلر، "الرؤية التي نطرحها تقوم بالتحديد على الأسس التي وضعت في عام 1944 [أي في بريتون وودز]"، بهدف "استعادة روحه الراديكاليّة"، ووضع هذه "المؤسّسات المدهشة" في خدمة صفقة خضراء جديدة عالميّة. في أحسن الأحوال، إنّ تصوّر أنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يمكن أن يعاد توظيفهما لحلّ مشاكل من صنعهما، هي فكرةٌ ساذجةٌ إلى أبعد حدّ؛ فكما كتبت أودري لورد بشكلٍ شهير، "لن تفكّك أدوات السيّد منزل السيّد أبدًا". وفي أسوأ الأحوال، تبدو أنّها محاولةٌ غير صادقة لتوليد دعمٍ يساريٍّ لنفس المؤسّسات التي أفقرت الجنوب العالمي لأكثر من نصف قرن، والتي تشكّل إدامةُ الهيمنة الرأسماليّة التي تقودها الولايات المتّحدة علّة وجودها.
يُستبعد أن تكون صدفةً أنّ موظِّف أدلر الأخير، توني بلير، يدعو إلى صفقة خضراء جديدة مشابهة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن. يشغل أدلر حاليًّا منصب زميلٍ في السياسات لدى جامعة فلورنس التابعة للاتّحاد الأوروبي، حيث ينظّر لـ "هيكليّة سياساتٍ لبريتون وودز جديد". في كانون الثاني 2020، وخلال استطراده عن رؤيته لصفقة خضراء جديدة على مستوى أوروبا، قدّم أدلر في الواقع عمليّةً إمبرياليّةً استغلاليّة، يستخرج من خلالها المتقاعدون الألمان الرّبحَ من "استثماراتٍ بيئيّةٍ في المجتمعات التي تضرّرت من التقشّف في جنوب أوروبا". يشدّد على أنّه "بإمكاننا تقديم عائدات سليمة على الاستثمارات... للمتقاعدين في فرنسا وألمانيا، وفي نفس الوقت، توفير... وظائف للعمّال في اليونان". بالتالي، ما ينادي به أدلر هي في الأساس آليّةٌ تسمح لفرنسا وألمانيا باستخراج المزيد من القيمة ممّا تبقّى في دولة اليونان ما بعد الإنقاذ وغيرها من الدول الضعيفة في الاتّحاد الأوروبي. بإمكاننا أن نفترض بسهولة أنّ رؤية "الأمميّة التقدميّة" لصفقة خضراء جديدة عالمية مبنيّة كذلك على عدم مساواةٍ مشابه، حيث يتلقّى المستثمرون في المركز الإمبريالي "عائدات سليمة" من استثمارات في مشاريع تنمية خضراء ظاهريًّا في الجنوب العالمي؛ أو، بعبارةٍ أخرى، استمرارٌ مباشرٌ للاستغلال الإمبريالي، ولكن بغشاءٍ "تقدّمي".
الأهداف والمطالب المحدّدة التي سبق تخطيطها من قبل أدلر وفاروفاكيس لا تظهر في أيٍّ من الميثاق التأسيسيّ وفيديو الانطلاقة لـ «الأمميّة التقدميّة»، وهو إغفالٌ مدهشٌ على أقلّ تقدير. عوضًا عنها، توجد مجموعة عباراتٍ غامضة وغير واضحة – أشبه ما تكون بلغة ’النشطاء‘ في بيئة المنظّمات غير الحكوميّة الغربيّة – والتي لا تزيد عن كونها مجرّد لغوٍ خالٍ من أيّ مضمون. ليس مستغربًا كذلك، بالنظر إلى الأفراد الذين يقفون خلف المشروع، غياب أيّ مطالب محدّدة لإنهاء العدوان الإمبريالي ضدّ إيران، كوبا، فنزويلا، سوريا وغيرها. في الحقيقة، لا يوجد ذِكرٌ واحد لوجود الإمبريالية الأمريكية، ناهيك عن اعترافٍ بأنّها التهديد الأساسي لبقاء البشريّة، أو أيّ عبارةٍ ضدّها. على نحوٍ مماثل، لا توجد دعوةٌ لتعويض ضحايا الاستعمار والاستعمار الجديد، ولا جملةٌ في دعم الحقّ بالمقاومة المسلّحة ضدّ هذه القوى المدمّرة، في فلسطين وغيرها. إنّ غموض بيان «الأمميّة التقدميّة» يقف بتناقضٍ ملحوظٍ قبالة مواقف التحالفات الأمميّة التقدّمية السابقة. على سبيل المقارنة، الإعلان العامّ لمؤتمر الكتّاب الأفريقيّين-الآسيويّين عام ١٩٦٧ مشبعٌ بمطالب محدّدة، بما فيها ’الوقف الفوريّ للقصف الهمجيّ والعدوان الأمريكيّ في فيتنام‘، بالإضافة إلى إداناتٍ صريحةٍ لـ’أعداء البشريّة الأكثر إيلامًا‘، الصهيونيّة، النيوكولونياليّة والإمبريالية الأمريكيّة.
قناة للدعاية الإمبرياليّة
من خلال استكشاف موقع "الأمميّة التقدميّة" والكمّيّة المحدودة من الموادّ المتاحة حاليًّا على الإنترنت، فإنّه من المثير للقلق – على الرغم من أنّه غير مفاجئ – أن نرى مقالًا لكلير ووردلي، إحدى المؤيّدين البارزين للسرديّة الزائفة التي ادّعت مسؤوليّة إيفو مورالس عن حرائق الأمازون، والتي مهّدت الطريق للانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة في بوليفيا عام 2019. في مقالٍ له في FAIR، ينقل لوكاس كرنر أنّ ووردلي "قارنت حكومة مورالس بشكلٍ صريحٍ ببولسونارو في البرازيل، واصفةً سياسات الحركة نحو الاشتراكيّة في بوليفيا (MAS) بأنّها "استغلاليّةٌ ومضرّةٌ بنفس القدر تمامًا كسياسات الرأسماليّين التي يدّعي مورالس أنّه يكرهها". يكمل كرنر: "الأكثر إدانةً لووردلي استشهادها بيهانيس فاكا-دازا، وهي جاسوسة مدعومة غربيًّا تعمل على تغيير النظام، للاستخفاف بتعامل حكومة مورالس مع الحرائق". أثناء الانقلاب، حاجّت ووردلي مرارًا أنّه لم يكن انقلابًا، وأنّ وصفه كذلك يعتبر "مركزيّةً أمريكيّة". إحدى المحطّات التي أعطت ووردلي منصّةً لعرض هذه الآراء الإمبرياليّة صراحةً كانت "نوفارا ميديا"، والتي يصادف أنّها شريكٌ إعلاميٌّ لـ "الأمميّة التقدميّة". "نوفارا" مؤسّسة إعلاميّة صغيرة، وأبرز أعضائها قد أظهروا أنّهم مجرّد انتهازيّين أنانيّين، وبالرغم من الادّعاءات الراديكاليّة (كالكثيرين في اليسار البريطاني)، ليسوا شيوعيّين ولا معادين للإمبرياليّة بأيّ معنًى ذي قيمة – تيّارٌ بائسٌ يتمثّل به عددٌ آخر من الشركاء الإعلاميّين لـ «الأمميّة التقدميّة»، لا سيّما مجلّة جاكوبين الأمريكيّة.
علامةٌ مقلقةٌ أخرى هي ارتباط "الأمميّة التقدميّة" بتجمّع لاوسان، وهي مجموعةٌ مقرّها في هونغ كونغ، شاركت في الاحتجاجات العنيفة الموالية للولايات المتّحدة التي جرت هناك العام المنصرم، وتستمرّ في التحريض ضدّ ما تسمّيه "الإمبرياليّة الصينيّة". الإشاعة الكاذبة بأنّ الصين قوّة إمبرياليّة تتردّد في مقالٍ آخر نشرته "الأمميّة التقدميّة"، يهاجم فيه المؤرّخ مايك دايفس الصين أكثر من مرّة. بلغةٍ يكاد يستحيل تمييزها عن لغة وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، يصف دايفس الصين مرارًا بأنّها "نظامٌ سلطويّ" مذنبٌ بـ"القمع الجمعيّ". كما يساوي زيفًا بين دعم الصين الدوليّ والإمبرياليّة الأمريكيّة، الذي يقول أنّ متلقّيه مضطرّون أن يكونوا شاكرين بطريقةٍ "لا تختلف كثيرًا عن صرامة واشنطن في الماضي". على نحوٍ مماثل، مقالٌ نشرته "الأمميّة التقدميّة" من شريكٍ إعلاميٍّ آخر، مجلّة "نويفا سوسيداد"، يحتوي على سلسلةٍ من الهجمات ضدّ الصين، ويردّد عددًا من الأكاذيب حول تعاملها مع تفشّي الفيروس (والتي تمّ تفنيدها هنا)، ويذهب بعيدًا إلى ذمّ من هم في الغرب من الذين أثنوا على تعاطي الصين مع الأزمة. هذا النوع من الخطاب لا يحرف الانتباه عن إخفاقات الحكومات الغربيّة في إدارة الأزمة فحسب، بشكلٍ خاصٍّ الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، بل يؤسّس تبريرًا لمزيدٍ من العدوان الإمبريالي على الصين في المستقبل.
إنّ توجّه "الأمميّة التقدميّة" المعادي للشيوعيّة، الذي يذكّرنا بكونغرس الحريّة الثقافيّة المموّل من وكالة المخابرات المركزيّة، يتكشّف بطرقٍ متعدّدة، ليس أقلّها غياب أيّ أحزابٍ أو مجموعاتٍ شيوعيّة صراحةً بين أعضائها. علاوةً على ذلك، ووفقًا للملفّ الشخصيّ لكاتبةٍ أخرى لدى "الأمميّة التقدميّة"، ألبينا أزمانوفا، فإنّها شاركت بشكلٍ نشطٍ "في الحركات الانفصاليّة التي أسقطت النظام الشيوعي في بلدها بلغاريا". هذا الجنوح المعادي للشيوعيّة صراحةً يظهر بشكلٍ واضحٍ أيضًا في مسيرة الـ "Cypherpunk" هاري هالبن المهنيّة، وهو عضوٌ في مجلس "الأمميّة التقدميّة". كمديرٍ تنفيذيٍّ لشركة أمنٍ تكنولوجيّ ومناصرٍ للعملات البديلة، تلقّى هالبن أكثر من مليون دولار كدعمٍ من منصّة الدعاية المعادية للشيوعيّة راديو آسيا الحرّة، التابع للولايات المتّحدة (وكذلك من المفوضيّة الأوروبيّة). كذلك فإنّه مع غياب أيّ ذكرٍ للإمبراطوريّة الأمريكيّة، هذا المقال من "الأمميّة التقدميّة" يذكر "الإمبراطوريّة السوفياتية". هنالك عددٌ لا يحصى من الأمثلة عن علاقاتٍ ومحتوياتٍ مقلقة على موقع "الأمميّة التقدميّة"، ولكن بغرض الإيجاز، ركّزتُ على بعض الأمثلة الفاضحة. أشجّع الآخرين على أن يغوصوا أكثر في المنظّمة وشركائها وأن يصلوا إلى استنتاجاتهم الخاصّة.
حدود وحدة اليسار
أغلب الظنّ أنّ أيّ شخصٍ ينتقد أو يشكّك في مشروعٍ يظهر أنّه حسن النيّة كـ "الأمميّة التقدميّة" سيصنّف على أنّه "متمرّدٌ فتنويّ"، مذنب بتوهين وحدةٍ مطلوبةٍ جدًّا لدى اليسار. لكنّه من الواضح أنّ الوحدة التي تنادي "الأمميّة التقدميّة" لأجلها شاملةٌ للغاية، لدرجة أنّها تضمّ مناصرين لما يجب أن يكون لعنةً بغيضةً لدى أيّ "تقدميّ" – الإمبرياليّة. كما لاحظ لينين يومًا، "قبل أن نتّحد، علينا أوّلًا رسم خطوطٍ حدوديّةٍ ثابتةٍ وحاسمة. وإلّا فإنّ وحدتنا ستكون خياليّةً بحتة، ستخفي الارتباك السائد وتحدّ من فرص إزالته الجذريّة". إنّ في مجلس الحركة، المقرّر أن يجتمع في مؤتمرٍ افتتاحيٍّ في آيسلندا أيلول المقبل، صفًّا سرياليًّا من الأفراد. مع ذلك، يغيب بصورةٍ ملحوظةٍ أيّ ممثّلين عن قوًى معاديةٍ للإمبرياليّة موجودةٍ في الأصل، كفنزويلا وكوبا، التي بالرغم من الضغط والعدوان المستمرّين من الولايات المتّحدة، تشارك بالفعل في أمميّة ملموسة وتضامنٍ عابرٍ للحدود دون الحاجة إلى مؤتمرٍ في آيسلندا. والأدهى أنّه غير واضحٍ أبدًا من خلال موقع "الأمميّة التقدميّة" كيف ولماذا تمّ اختيار أعضاء مجلس إدارتها، أو أيّ دورٍ يلعب أعضاؤها في هذه العمليّة.
كما يحاجّ الفيلسوف الماركسيّ مارشال بيرمان في كتابه "كلّ ما هو صلب يتحوّل إلى أثير" عام 1982، فإنّ الأزمات "يمكنها أن تجبر البرجوازيّة على الابتكار، التوسّع، والاندماج بشكلٍ مكثّفٍ ومبدعٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى"، ويبدو أنّ "الأمميّة التقدميّة" تجلٍّ لهذه الظاهرة. لقد كشفت جائحة كوفيد-19 على نحوٍ كبير عن عدم المساواة وعدم قابليّة الاستدامة في النظام الرأسمالي، ويوجد ادراكٌ متزايدٌ لدى الطبقة الحاكمة بأنّ الوضع الراهن غير مستدام. كما كانت "الصفقة الجديدة" الأصليّة في الثلاثينيات وسيلةً لإنقاذ الرأسمالية في الولايات المتحدة وإحباط نموّ حركةٍ شيوعيّة شعبيّة في زمن الأزمة والبطالة الجماعيّة، يبدو أنّ هذا جهدٌ مماثلٌ على نطاقٍ عالميّ. من المحتمل أن تكون "الأمميّة التقدميّة" محاولةً لجرّ من يعرّفون عن أنفسهم على أنّهم يساريّون إلى دعم المؤسّسات والأيديولوجيات التي تدفع بالكوكب أكثر من أيّ وقتٍ مضى إلى نقطة اللاعودة. يبدو أنّها تمثّل وسيلةً لتوليد دعمٍ يساريٍّ لوثيقةٍ سياسيّةٍ للاتّحاد الأوروبي صاغها أدلر وتقديمها على أنّها نذير للتغيير الثوريّ. لقد كتب الشيوعي الأمريكي وليام ز. فوستر بشكلٍ تنبّؤيٍّ في عام ١٩٥١ أنّ ما يسمّى بالـ"قوّة الثالثة" من الديمقراطيّين الإشتراكيّين "ليس لديها ما تقدّمه للعالم سوى منظورٍ من الرأسماليّة المفتّتة المتعفّنة"، وأنّه "لا يمكن أبدًا جعل الرأسماليّة "تقدميّة"، بل هي رجعيّةٌ بشكلٍ ميؤوسٍ منه". ضاعت هذه الحقيقة وسط استطيقا "الأمميّة التقدميّة" الذكيّة، التي تريدنا أن نصدّق أنّ الأجوبة للأزمات الوجوديّة التي تواجهها الإنسانيّة تكمن داخل نفس المؤسّسات التي تسبّبها وتستفيد منها.
في خاتمة كتابه ’داخل الشركة‘ عام 1974، يكتب المسرّب في وكالة المخابرات المركزيّة فيليب آغي:
الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، تستحيل اللامبالاة تجاه الظلم في الداخل والخارج. الآن، أكثر وضوحًا من أيّ وقتٍ مضى، يكشف طرفا البؤس والثروة الصراعات الطبقيّة المتضاربة التي لا يمكن التوفيق بينها ولا يمكن إلّا لثورةٍ اشتراكيّةٍ حلّها. الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، كلٌّ منّا مجبرٌ على اتّخاذٍ خيارٍ واعٍ إمّا لدعم نظام راحة وامتياز الأقليّة بكلّ أجهزته الأمنيّة وقمعه، وإمّا للنضال من أجل مساواةٍ حقيقيّة في الفرص وتوزيعٍ عادلٍ للمنافع على كامل المجتمع، في النظام المحليّ وكذلك الدوليّ. من الصعب الآن عدم إدراك أنّ هنالك طرفان، ومن الصعب عدم فهم كلّ منهما، ومن الصعب ألّا ندرك، سواء أعجبنا ذلك أم لا، بأنّنا نساهم يومًا بعد يوم في طرفٍ على حساب الآخر.
من الواضح أنّ «الأمميّة التقدميّة» تعمل على طمس الخطّ الفاصل بين هذين الطرفين. يجب على كلّ شخصٍ مشاركٍ فيها أن يسأل نفسه عن الأثر الذي سيتركه ارتباطه بهكذا منظّمةٍ على القضايا المنخرط فيها. هل يعيرون مصداقيّتهم وسمعتهم لمنظّمةٍ لا تشاركهم نفس المبادئ الأساسيّة؟ من الواضح أنّ «الأمميّة التقدميّة» تعتزم أن تكون أكثر بكثيرٍ من مجرّد حالةٍ لا تدوم طويلًا؛ بيانها الافتتاحيّ، بقلم أدلر، يعلن عن نيّته في ’إنشاء بنيةٍ تحتيّةٍ راسخةٍ لأجل الأمميّة‘. بدلًا من ’الاعتماد على الحملات والعرائض المؤقّتة، تسعى «الأمميّة التقدميّة» لأن تكون مؤسّسةً دائمةً تستطيع ربط القوى التقدميّة معًا ودعمهم لبناء القوّة في كلّ مكان’. خططٌ كهذه تعيد إلى الذهن تقييم إنجلز للاشتراكيين البرجوازيين، الذين:
يتقدّمون بأنظمة إصلاحٍ مهيبةٍ تهدف – وبحجّة إعادة تنظيم المجتمع – في الواقع إلى الحفاظ على أسس... المجتمع الحاليّ. يجب على الشيوعيّين أن يناضلوا بلا هوادةٍ ضدّ هؤلاء الاشتراكيين البرجوازيين لأنّهم يعملون في خدمة أعداء الشيوعيّين وحماية المجتمع الذي يهدف الشيوعيّون إلى الإطاحة به.
لذلك، فإنّ السؤال لأيّ شخصٍ يعارض الإمبرياليّة والرأسماليّة بصدق، هو: كيف يستجيب المرء لإنشاء مثل هذه الحركة التي تبدو خادعة، ذات الطموحات العالية والدائمة والعالميّة؟ الخطوة الأولى هي الحفاظ على المشاعر الثوريّة الصاعدة حول العالم، في وجه مجهودٍ برّاق يهدف بوضوحٍ إلى تضليلها وإضعافها.
"Related Posts
كاتب مقيم في لندن